كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أحدها: يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث. وبهذا قال سفيان الثوري، وأبو ثور، وداود، وابن جرير.
والثاني: يغرب نصف سنة لقوله تعالى: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وهذا أصح الأقوال عند اصحابنا، وهذا الآية مخصصة لعموم الحديث والصحيح عند الأصوليين، جواز تخصيص السنة بالكتاب، لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى.
والثالث: لا يغرب المملوك أصلًا، وبه قال الحسن البصري، وحماد، ومالك، وأحمد وإسحاق لقوله صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا زنت «فليجلدها» ولم يذكر النفي، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي، والآية ظاهرة في وجوب النفي، فوجب العمل بها، وحمل الحديث على موافقتها والله أعلم. اه كلام النووي، وقوله: إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر فانظره.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وأن الأئمة الثلاثة: مالكًا، والشافعي، وأحمد، متفقون على تغريب الزاني البكر الحر الذكر، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد، وعلمت أن أبا حنيفة، ومن ذكرنا معه يقولون: بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقًا ذكرًا أو أنثى حرًا أو عبدًا فهذه تفاصيل أدلتهم.
أما الذين قالوا: يغرب البكر الزاني سنة، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرًا عنده، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم، رد عليك وعلى ابنك، جلد مائة وتغريب عام» الحديث وفيه التصرح من النبي صلى الله عليه وسلم برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عامًا، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع. ومن ذلك ما أخرحه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي قدمناه، وفيه «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة» وهو أيضًا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في محل النزاع. واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة:
منها: أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخًا للآية فهم يقولون: إن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد.
والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم، أما الأول منهما وهو أن كل منهما وهو أن كل زيادنة على النص، فهي ناسخة له ليس بصحيح، لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق؛ إلا إن كانت زيادة على النص، فهي ناسخة له ليس بصحيح، لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق؛ إلا إن كانت مثبتة شيئًا قد نفاه النص أو نافية شيئًا أثبته النص، أما إذا كانت زيادة شيء سكت عنه النص السابق، ولم يتعرض لنفيه، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتًا بدليل شرعي.
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] الآية.
وفي سورة الحج في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات الحج وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك.
وأما الأمر الثاني: وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد؛ فقد قدمنا في سورة الأنعام في الكلام على آية الأنعام المذكورة آنفًا؛ أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطًا لا شك فيه، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا ثبت تأخرها عنه، ولا منافاة بينهما أصلًا، حتى يرجح المتواتر على الآحاد، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين، لأن كلا منهما حق في وقته؛ فلو قالت لك جماعة من العدول: إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن؛ ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة، لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق. وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور؛ فالمتواتر في وقته قطعي؛ ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي؛ فنسخه بالآحاد إنما نفي استمرار حكمه؛ وقد عرفت أنه ليس بقطعي كما ترى.
ومن أدلتهم على عدم التغريب حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود وقد قدمناه: أن رجلًا أقر عنده صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون زنت؛ فجلده الحد؛ وتركها. وما رواه أبو داود أيضًا عن ابن عباس: أن رجلًا من بكر بن ليث أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه زنى بامرأة أربع مرات؛ وكان بكرًا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة، وسأله صلى الله عليه وسلم البينة على المرأة إذا كذبته، فلم يأت بها؛ فجلده حد الفرية ثمانين جلدة؛ قالوا ولو كان التغريب واجبًا لما أخل به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أدلتهم أيضًا: الحديث الصحيح: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» الحديث، وهو متفق عليه، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامة صلى الله عليه وسلم أن الجمع بين جلد البكر، ونفيه سنة قضاء منه صلى الله عليه وسلم بكتاب الله.
وإيضاح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع، ما لم يبلغه شيء آخر يعارض به.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله. قال: وخطب بذلك عمر رضي الله عنه على رؤوس المنابر؛ وعمل به الخلفاء الراشدون؛ ولم ينكره أحد فكان إجماعًا. اه منه.
وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب.
والحاصل: أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب؛ ولا التصريح بعدمه؛ ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام: بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح؛ وعلى تقدير: أن الإقسام هو المتقدم. فذلك التصريح: بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل؛ ولو تكررت الروايات به تكررًا كثيرًا. وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما: أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بان الجمع بينهما قضاء بكتاب الله، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن. أما كونه في السند: فظاهر، وأما كونه في المتن: فلأن حديث ابي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الاصول، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب.
وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد، فهي تجلد خمسين، ولو محصنة، ولا ترجم. والأحرار بخلاف ذلك، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف.
وقد بينت آية النساء اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين:
إحداهما: أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة، فعليها الجلد لا الرجم.
والثانية: أن عليها نصفة، وذلك في قوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فتأمل قول: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} وقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} يظهر لك ما ذكرنا.
ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه: هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الأول: اعلم أن الذين قالوا بالتغريب، وهم الجمهور اختلفوا في تغريب المرأة، فقال جماعة من أهل العلم: تغرب المرأة سنة لعموم أدلة التغريب، وممن قال به: الشافعي وأحمد، وقال بعض أهل العلم: لا تغريب على النساء، وممن قال به مالك والأوزاعي، وروي مثله عن علي رضي الله عنه.
أما حجة من قال بتغريب النساء فهي عموم أدلة التغريب، وظاهرها شمول الأنثى، وأما الذين قالوا: لا تغريب على النساء، فقد احتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة بنهي المرأة عن السفر، إلا مع محرم أو زوج.
وقد قدمناها في سورة النساء في الكلام على مسافة القصر. قالوا: لا يجوز سفرها دون محرم، ولا يكلف محرمها بالسفر معها، لأنه لا ذنب له يكلف السفر بسببه، قالوا: ولأن المرأة عورة وفي تغريبها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولذلك نهيت عن السفر إلا مع محرم او زوج، قالوا: وغاية ما في الأمر، أن عموم أحاديث التغريب بالنسبة إلى النساء خصصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج، وهذا لا إشكال فيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أنها إن وجد لها محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة، مع تبرع المحرم المذكور بالرحوع معها إلى محلها، بعد انتهاء السنة، فإنها تغرب، لأن العمل بعموم أحاديث التغريب لا معارض له في الحالة المذكورة. وأما إن لم تجد محرمًا متبرعًا بالسفر معها، فلا يجبر، لأنه لا ذنب له، ولا تكلف هي السفر بدون محرم، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقد قدمنا مرارًا أن النص الدال على النهي يقدم على الدال على الأمر على الأصح، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذا التفصيل الذي استظهرنا لم نعلم أحدًا ذهب إليه، ولكنه هو الظاهر من الأدلة، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا في تغريب العبد والأمة، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك.
وأظهر أقوالهم عندنا: أن المملوك لا يغرب، لأنه مال، وفي تغريبه إضرار بمالكه، وهو لا ذنب له ويستأنس له بأنه لا يرجم، ولو كان محصنًا، لأن أهلاكه بالرجم إضرار بمالكه. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» الحديث، ولم يذكر تغريبًا، وقد فهم البخاري رحمه الله عدم نفي الأمة من الحديث المذكور، ولذا قال في ترجمته: باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى.
وقد قدمنا اختلاف الأصوليين في العبيد هل يدخلون في عموم نصوص الشرع، لأنهم من جملة المكلفين، أو لا يدخلون في عموم النصوص، إلا بدليل منفصل لكثرة خروجهم من عموم النصوص، كما تقدم إيضاحه.
وقد قدمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل، واعتمده صاحب مراقي السعود بقوله:
والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر إخراجهم هنا من نصوص التغريب، لأنه صلى الله عليه وسلم امر بجلد الأمة الزانية وبيعها، ولم يذكر تغريبها، ولأنهم مال، وفي تغريبهم إضرار بالمالك. وفي الحديث: «لا ضرر ولا ضرار» والعلم عند الله تعالى.
أظهر القولين عندي: أنه لابد في التغريب من مسافة تقصر فيها الصلاة، لأنه فيما دونها له حكم الحاضر بالبلد زنى فيه.
وأظهر القولين أيضًا عندي أن المغرب لا يسجن في محل تغريبه، لأن السجن عقوبة زائدة على التغريب، فتحتاج إلى دليل، ولا دليل عليها، والعلم عند الله تعالى. والأظهر أن الغريب إذا زنى غرب من محل زناه إلى محل آخر غير وطنه الأصلي.